كثيرة هي الدراسات والتجارب والأبحاث والأدبيات التي سجلتها الحركة الإسلامية الأسيرة في أقبية السجون والمعتقلات، هذه الحركة التي قدمت ولا تزال تقدم الكثير الكثير، حتى شهد أحد الخصوم يوما :” أنتم قوم تتقنون فن التضحية ولا نملك إلا أن نقف إجلالاً لذلك، لكنكم لا تحسنون استثمار ذلك أو الحفاظ عليه”.
أجل ! ومن المؤسف ألا نحفظ لأحفادنا تجاربنا وألا نودع للتاريخ سطور تضحياتنا وإبداعاتنا، ولعل الآلاف من أبناء الحركة الإسلامية يعانون أن كثيراً من إنتاجهم وإبداعهم في السجون لم ير النور بعد، بل لا يعرف أصحابه مصيره.
كانت أياماً مميزة من صيف عام 1990 م تلك التي قضيتها في سجن غزة … فسرعان ما غمرني الأخ أبو أنس بعواطفه الجياشة وإنساني كل ما حول، وشدني إليه شداً عجيباً وهو يقص على مروياته تلك ، وكنت أفعل بانفعاله، وأحفظ كل ما يقوله … وينطبع في خاطري كل نبضاته وأحاسيسه وخفقات فؤاده الرقراق، ومنذ الساعة الأولى لسماعي بعض أحداث “جميلة” أحسست بدافع قوي بضرورة تسجيل هذه الروايات فصارحته بذلك فوجدت عنده ذات الرغبة بل وتشجيع السابقين له، ووجد الأخ أبو أنس ضالته لما علم من قدرتي على الصياغة الأدبية والقصصية ــ وإن كانت محدودة غير المتخصصة ــ ولكن الدافع الإيماني والحمد لله كان أوى من كل تردد، فمثل هذه الأحداث لابد أن تسجل وتروى للأجيال : شهادة للتاريخ وتجارب لأمم الإسلام وفناً في أساليب الدعوة إلي الله وعملاً إليه، وعزمنا معاً على إنجاز هذا العمل ولقد يسر الله لنا ذلك وبارك في تلك الليالي والأيام المحدودة التي قضيناها معاً فقمت بصياغة هذه المرويات من ألفها إلي يائها على لسان صاحبها ــ بل بطلها الحقيقي الأخ أبو أنس ــ الذي ذاق حلوها ومرها حتى جاءت بهذا الثوب الأدبي الذي ذاب جوهرها جمالاً وإشراقاً، فحسنت بفضل الله مبنىًً ومعنىً، أقول هذا لما شاهدته من تأثير عشرات القراء وانفعالهم وإشادتهم بها ، وأجمل ما فيها أنها ليست من صنع الخيال المحض بل هي قصص من واقع الحياة، ومضات من نور الإسلام في ليل روسيا الحالك ، أقول هذا وأنا أعلم أن بعض النقاد لا يعجبهم بعض الاستطرادات الوعظية وما يعتبرونه حشواً، لكن عذري أن الهدف السامي لا يقيده عرف ولا قانون، وسبحان من له الكمال والجلال، وكم كنا سعداء حين تلقينا نسخاً من الطبعة الأولى في السجن مما شجعنا على الاستمرار في كتابة مرويات أخرى وأضيفت إلي هذه الطبعة مثل (مختار التتار)، لقد أحب أبو أنس يومها أن تظهر الرواية باسم مستعار (أحمد ناصر) لظروف خاصة، ولم نكترث لذلك فقد كان المهم عندنا أن تسجل الرواية وترى النور وتنتشر الفكرة، ويتجدد الأمل بنشر إبداعات السجناء …. ولقد نفذت الطبعة الأولى بسرعة حتى أنني لا أزال أفتقد نسختي الوحيدة منها بعد أن تنقلت بين يدي عشرات القراء المعجبين بها ، واليوم تكررت هذه النفحة الطيبة والهمة المباركة من الأخ الوزير أبو أنس ــ الذي لم تنسه أشغاله وهمومه ــ أن يعيد طباعة هذه الروايات الهادفة والذكريات الجميلة، وكانت لفتة جميلة أخرى : أن شرفني بهذا التقديم للرواية في طبعتها الثانية المكتملة والمنقحة مظهراً فيها اسمه الحقيقي كداعية صنعت منه الأيام بطلاً لهذه الأحداث وهو حق لا مراء فيه، ومظهراً كذلك حق إخوانه الذين ساهموا في إنجاز هذه المشروع الأدبي الرائع ولا أنس أن أسجل للأخ العزيز أبو محمود ـ عبد الله ـ الذي بذل جهوداً مضنية في طباعة الكتاب وتنقيحه ونشره وكذلك الأخ العزيز أبو جندل الذي خاطر بنفسه وأهله وهو يقوم بتهريب كبسولات الكتاب من ظلمات السجن.
والله نسأل أن يصلح أعمالنا ويتقبل منا إنه هو السميع العليم .